أخبار عاجلة

المهدية : النمط النموذجي لديار المهدية داخل المدينة العتيقة

تعدّ مدينة المهدية التي أسسها سنة 910 ميلادية الداعي الشيعي عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية من أعرق المدن الإسلامية في المغرب العربي بعد القيروان. والمهدية تشغل مكانا منزويا منغلقا على نفسه فهي تتمثل في شبه جزيرة وقع اختيارها من جهة للابتعاد عن تمرد القبائل البربرية وعن القيروان ذات الأغلبية السنيّة و للتحصّن بالبحر لصدّ الهجومات الآتية من الشرق والغرب وجلب التموينات عن طريق البحر كلما سدت السبل البرية. و المهدية تصنف ضمن المدن المستحدثة أو المدن المحصنة التي وقع اختيارها لا لأنها مؤهلة للتوسّع العمراني ولخصب الأراضي المحيطة بها وتوفر المياه العذبة و مقالع الحجارة بها، وإنّما لأنها تحتل موقعا جغرافيا متميزا يساعدها لأن تصبح مدينة مهابة وقلعة ممانعة ومدافعة وحماية وهذا ما وقع بالفعل حيث وصفت في مصادر الفترة الوسيطة بالمدينة الذكر La ville mâle وكانت تسمّى بإفريقياAfrica ، ولقد عرفت تاريخا متقلبا مرت فيه بفترات ازدهار و عمران وفترات خراب ودمار تعقبها فترات إعادة تعمير. وارتبطت المدينة النواة بأرباضها واضطرت للتعايش مع محيطها القروي والريفي الذي ساعدها على مقاومة أعمال التدمير والنهب والسلب التي كانت تتعرض له بفعل الهجومات القادمة من البحر والبر وخصوصا خلال الصراع الأسباني التركي على البحر الأبيض المتوسط الذي أفضى إلى تدمير حصونها من طرف شارل الخامس Charles Quint وفرسانه سنة 1550، والذي احتل المدينة بجيش قادة الأميرال “أندري دوريا”8 بعد حصار طويل ودمر حصونها وأبراجها وقلاعها وحطّم بذلك الأسطورة الدفاعية للمهدية ثم أمر سنة 1594 بإضرام النار فيها وإحراق جامعها، فحلّ بها الخراب حيث أضحت تسمّى”بمدينة الفئران” ولم تتمكّن المهدية في العهديّن المرادي والحسيني من استعادة مكانتها وبدأ دورها يتقلص أمام مدن مثل المنستير وسوسة وصفاقس.

وأثناء الحكم الفاطمي كانت المدينة أساسا مدينة أميريّة ومركزا لتموين الجند وتمويله تقوم على ثلاثية القصر والجامع والسوق ولم تكن فضاءا للسكن والسكنى للعوّام الذين كانوا يقطنون بأرباض المدينة وأساسا بربض زويلة وحيث لا يفكّرون في مداهمة المدينة نهارا لأنهم سيخافون على أولادهم ونسائهم من بطش جند الدولة الفاطمية وليلا لأنهم سيخافون على أموالهم وأرزاقهم التي كان يحويها سوق المدينة.

تمسح المدينة “العتيقة” اليوم تقريبا 376670 م‌‌‌‌‌2 وتقدر المساحة المبنية بما يقارب 13916 م2أي ما يناهز 30 بالمائة من مجموع المساحة الجمليّة وتحتلّ المقبرة فضاء الأموات9 تقريبا 18 بالمائة من مساحتها الجملية بمساحة تقدر ب 69260 م2وهو ما يبين مكانة المقبرة البحرية في النسيج العمراني للمدينة حيث مثّل البحر قديما وحديثا حلقة وصل مع الآخر ومعبرا نحو الحضارات الأخرى وممرّا للسلع والبضائع والتقنيات والأفكار والأحاسيس المتناقضة وملاذا للنساء (حيث يقصدن قديما البحر ليلا للترويح عن النفس ونهارا لغسل الأدباش والصوف) وللأطفال أين يجدون متسعا للعب والمرح وممارسة نشاط الصيد بالصنارة وشباك “الطراحة” وموردا للرجال وخاصة للبحارة ومكانا لجلب الزوار الجانب والسياح الذين ذهب بهم أمر عشق رؤية البحر إلى شراء دار داخل المدينة “العتيقة” وخاصة على الواجهة المحاذية للبحر ونقصد الواجهة الغربية وفي اصطلاح المهدويين ينعت ب”بحر الجبلي”.

تتركب المدينة الممتدّة من “السقيفة الكحلاء”10 أو باب الفتوح أو باب زويلة إلى برج الرأس ومنه إلى رأس أفريقيا من ثلاث مناطق رئيسية تحتل فيها الوظيفة السكنية دورا ثانويّا :

  • المنطقة القديمة وهي سكنية تجارية مع وجود بعض الأنشطة الاجتماعية والدينية والترفيهية (مقاهي سياحية بالأساس) والخدمات (مكتب بريد، قسم إرشاد سياحي، متحف جهوي يحتل البناية القديمة لمبنى البلدية التي شيّدته سلطة الحماية بعد 1888، مكاتب العدول…).

  • منطقة المنار وهي أثرية وتقع على امتداد رقعة المقبرة.

  • منطقة المقبرة وهي المنطقة الواقعة على الساحل الجنوبي ونجد بها الجامع الكبير الذي رمم سنة 1966 وهدم كل من حوله والبرج العثماني والميناء القديم المحفور في الصخور والذي تعود إلى العهد البونيقي.

20وبذلك يمثل مقدار المساحة المستعملة للسكن 48226 م2 من مجموع المساحة المبنية أي ما يعادل 42 بالمائة ممّا شكل ضعف الرصيد العقاري وازدحام المساكن عاملا حاسما في دفع السكان إلى السكن خارج المدينة النواة، ولكن رغم هذا فإنها تحتل موقعا مركزيا في تصورات وممارسات المهدويين في علاقتهم بمدينتهم بحكم:

  • وجود الجامع الكبير وعديد الزوايا وخاصة زاوية سيدي جابر الولي الصالح حارس المدينة والمزارات والمقبرة وانتساب أغلب العائلات إلى “برج الرأس” من قريب أو من بعيد وما يوفّره الفضاء من اشباعات روحانية ووجدانية لمتساكنيه والوافدين عليه، فهو يرسخ لحظة من لحظات التجلي مع الخالق والمصالحة مع الذاكرة في مدينة تشهد اليوم نسقا سريعا من تحولات بنيوية تهدّد توازناتها الاجتماعيّة.

  • رواج أسطورة تأسيس مفادها أن صفة ساكن المهدية ذو الأصل المهدوي لا تنطبق إلا مع من سكن في “برج الرأس” وهنا نلاحظ أن الفضاء شكل عاملا مؤسسا للهوية ومكانا للذاكرة الجماعية un lieu de mémoire التي يحملها “المهدويون” عن مدينتهم.

التعليقات

التعليقات

شاهد أيضاً

الاحتفاظ بشخص من أجل مسك واستهلاك وترويج مادة مخدرة

في إطار التصدي لجميع مظاهر الجريمة وخاصة منها ظاهرة استهلاك وترويج المواد المخدرة وعلى إثر …